

لقد شيَّد الإسلام صرحًا حضاريًا لم تعرف البشرية له نظيرًا، وذلك في غضون سنوات قليلة، والتي لولا اليقين التام بحصول ذلك؛ لظن الإنسان أن هذا ضرب من الخيال.
فالرسول يقول: “ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم“.
ومما لاشك فيه؛ أن قيام كل مسلم بما عليه من حقوق وواجبات تجاه الآخرين، كان من جملة الأسباب الرئيسة في تشييد تلك الحضارة.
فالمسلمون كيان واحد، وإن كانت أجزاؤه متعددة، وإن من أقوى العلاقات التي تربط عموم المسلمين، والتي عرف المسلمون حقوقها، وقاموا بها خير قيام؛ حقوق الجوار، فالجار أقرب إلى الإنسان من أقربائه، وهو أسرع في نجدته إن ألمَّت به مُلمَّة، فجاركيُساعدك عندما تحتاج إلى العون، وهو من يُسعفك عند مرضك؛ فالوصية بحسن الجوار من أوليات دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أهمّ الأمور التي حثّ عليها الإسلام.
فعندما سأل هرقل أبا سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته ورسالته؛ فقال له: بما يأمركم؟ فقال أبوسفيان: “يأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء…”. الحديث.
ولهذا كان الصحابة الكرام يقومون بحق الجار حتى مع الكفار، فكانوا من أحرص الناس على إكرام الجار، وإن كان غير مسلم؛ فقد أخرج الترمذي وأبو داود بسند صحيح عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: “أنه ذبحت له شاة في أهله، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟”، قلنا: لا، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه”. صححه الألباني في الإرواء.
وهذا الحديث ورد كذلك عند البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، وقد قال الله تعالى في وصيته لعباده بالجار: “وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ”. النساء: 36.
وينبغي أن يُعلم؛ أنه قد جاء في حدّ الجوار، أنه يُطلق على الملاصق للدار، وحتى يصل إلى أربعين بيتًا ملاصقًا لبيتك.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة؛ فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك”. رواه مسلم، أي:تعاهد جيرانك بما تصنعه من طعام؛ فكيف بنا ويبيت بعض جيراننا وقد مزق الجوع بطونهم، ونحن نغط في نوم عميق، ليس لنا هم سوى أنفسنا؟!!!
ويتأكد هذا الأمر في ظل الغلاء الذين اكتوى الناس الآن بناره، وصار الناس في ضيق من أمرهم، فالواجب على المسلمين أن يتفقدوا الفقراء والمساكين، وما أكثرهم في زماننا، فمن الناس من لا يجد قوت يومه، ومنهم من لا يجد غطاءً يحميه من البرد، ومنهم…، ومنهم…، ومنهم…
والإنسان بمفرده أضعف من أن يصمد طويلاً أمام هذه الشدائد، ولئن صمد، فإنه يعاني من المشقة والجهد ما كان في غنى عنه لو أن إخوانه التفتوا إليه، وهرعوا لنجدته، وأعانوه في مشكلته، فالمرء قليلٌ بنفسه، كثيرٌ بإخوانه وجيرانه وأهله.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُحسن إلى جاره”. رواه مسلم.
فنحن في أمس الحاجة إلى إحياء هذا المعنى في قلوبنا وأعمالنا، فكلنا يعلم حق جاره عليه، ولكن المطلوب منا أن نخرج هذا العلم إلى التطبيق العملي في حياتنا، فمجتمعات المسلمين كَثُرَ فقراؤها، وعَظُمَت حاجتهم، وينبغي على المسلمين أن يسارعوا بسد حاجتهم الأساسية التي يفتقدونها.
هذا فضلًا عن الخلافات التي لا تنتهي بين الجيران، والتي تمتد في كثير من أحوالها إلى حد الإيذاء، بل والقتل أحيانًا.
ورحم الله الحسن البصري حين قال: ليس حُسن الجوار كف الأذى عن الجار، ولكن حسن الجوار: الصبر على الأذى من الجار.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه”. متفق عليه.
وفي رواية لمسلم:” لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه“.
البوائق :الغوائل والشرور.
وليس كل الجيران على مرتبة واحدة، بل للجار مراتب ثلاث:
جار له حق واحد: وهو المشرك؛ فله حق الجوار.
وجار له حقان: وهو الجار المسلم؛ له حق الجوار، وحقّ الإسلام.
وجار له ثلاثة حقوق: وهو الجار المسلم القريب؛ له حق الجوار، وحق الإسلام، وحق القربى.