رئيس مجلس الادارة : إيهاب مباشر

رئيس التحرير : حنان الشايب

إيهاب مباشر يكتب «الرهان لا يزال قائما»

 

 

رغم مرور ما يقارب الخمسين عاما، إلا أن الرهان لا يزال قائما بين إبهامي والسُبابة والوسطى وأول قلم رصاص لمسته بصماتهم.
القضية رغم أنها عاشت معي حوالي نصف قرن من الزمان، إلا أن ما استدعاها بملامحها وتفاصيلها الآن، مشاهدتي لفيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي” لعباقرة الكتابة والتمثيل والإخراج، وقبلهم المنتجون الذين يتمتعون بحس فني عالٍ؛ مكنهم من رؤية نجاح أعمالهم، بمجرد أن تعرض عليهم أوراقها، وطاقم الفنانين، وقبلهم طاقم الإخراج.
عندما يحمل العمل الفني بصمات إحسان عبد القدوس كتابةً وتأليفًا، والمبدعين رأفت الميهي ورمسيس نجيب سيناريو وحوارًا، والفنانين النجوم محمود يسن وحسين فهمي ونجوى إبراهيم ويوسف شعبان وعبد المنعم إبراهيم وصلاح السعدني وسعيد صالح أداءً وتمثيلًا، بإدارة مايسترو الإخراج حسام الدين مصطفى.
عندما نعرف أن العمل الفني يضم كل هؤلاء المبدعين، فالطبيعي أن يكون حكمنا المسبق عليه في محله، وقد أبدع الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس في الربط ما بين عدوين محددين من أعداء الوطن، عدو الداخل الذي يسرق مقدراته بفساده، وعدو الخارج الذي يسرق الأرض والحدود بغبائه وجهله وصلفه وغروره، وقد غابت عن مخيلتهما أن رصاصة الجندي المقاتل محمد – الذي قام بدوره الفنان الراحل محمود يس – تتأهب لأن تخرج من فوهة بندقيته، لتصيبهما في مقتل، إنه رهان على حب الوطن وتحدي القهر والفساد وتحدي النكسة بكل تفاصيلها وأبعادها، إنه رهان على العبور.
عود على بدء، إلى رهان موازٍ آخر، رهان وُلِدَ بين أنامل الطفل الذي لم يتعد الخمسة أعوام ونصف العام، وهو يبدأ أولى خطواته إلى فصول درسه، يتلمس طريقه إلى مستقبل يعلمه علام الغيوب، عندما اصطحبه أبوه – رحمة الله عليه – إلى المدرسة الإعدادية، التي احتضنت صَفَّين دراسِيَّيْنِ لمن هم دون الست سنوات؛ ليلتحقوا بالصف الأول، وبعدها يعودون إلى المدارس التي تجاور بيوتهم، ولا أعلم السبب في أن يلحقونا بهذين الصفين إلى الآن، هل لأن أعمارنا لا تؤهلنا لأن ننخرط مع رفاق وصلوا السادسة من أعمارهم أو تخطوها؟، علما بأننا كنا نحضر في الفترة المسائية للمدرسة الإعدادية، التي تضم طلبة الاتحاد الاشتراكي (هكذا كان يطلق عليهم، ولا أعلم إلى الآن لماذا أطلقوا عليهم هذا المسمى، وعلى حد علمي أن هؤلاء الطلبة لم يحصلوا على درجات في الشهادة الابتدائية، تؤهلهم للحاق بالمرحلة الإعدادية (أميري) هكذا كان يطلق عليها، ولا أعلم أيضا لماذا)، وهؤلاء كان يتولى أمرهم الأستاذ الراحل عبد الحميد المراسي بطلته المرعبة، وخيزرانته الأرعب، بعدها تأكدت أن المسؤولين كانوا محقين في تولية الراحل على هؤلاء الطلبة.

كل هذا ولا أعرف السبب إلى الآن في أن يجمعونا في هذين الصفين ويلحقونا بفترة مسائية تضم طلبة الاتحاد الاشتراكي للمرحلة الإعدادية، وكل ما أتذكره عن هذه المرحلة وما علق بذاكرتي، هو إسم المعلمة وشكلها، ولا شيء آخر.
بعدها انتقلت إلى الصف الثاني بمدرسة البنين، وهي إحدى مدرستي (أبو ربيعة)، حيث مدرسة الحرية في الفترة الصباحية، ومدرسة البنين في الفترة المسائية، في نصف العام الأول، ويتبدل توقيت دوام المدرستين في نصف العام الآخر، وكان من حسن حظي أن بدأت العام في الفترة المسائية، حيث الاستيقاظ متأخرا، بعيدا عن برد الشتاء الذي يأتي مع نصف العام الأول.
بدأت عامي الدراسي الثاني، بعدما ودعت عامي الأول، بما له وما عليه، حيث تبعد مدرسة البنين عن البيت خطوات، وكان الموعد مع رفاق صف يجاوروني في البيت، فزالت وحشة بعد المدرسة الأولى عن البيت، وبدأت رحلتي مع معلمة صف – رحمها الله وطيب ثراها – كانت ودودة وقريبة من تلاميذها، مع عيب بسيط جدا ـ من وجهة نظري القاصرة ـ وهي كثرة واجبات الكتابة، حيث كانت تطلب منا كتابة درس القراءة الذي يحوي خمس صفحات، ثلاث مرات على الأقل كل يوم، يعني بحسبة بسيطة، كنت أكتب خمس عشرة صفحة، فكانت النتيجة أن تورمت العقلة الأولى من إصبع الوسطى – حيث كنت ولا أزال ألصق بداية القلم الرصاص بها، ويسنده الإبهام، ويؤمن عليهما السبابة، وكأنه قفل سد على القلم كل محاولات الهروب، إن قل عقله وفكر في ذلك، وكان نتيجة هذه القبضة الحديدية، أن القلم كان يغور في نهاية العقلة الأولى من إصبع الوسطى، إلى أن انقلب نتوءا، تحول مع الوقت إلى ما يشبه البروز في عظام ولحم وجلد عقلة إصبع الوسطى، وكان هذا مصدر ألم يستمر، إلى أن ينتهي واجب الكتابة – الرذل – .
اقترب نصف العام على الانتهاء، واقتربت معه إجازة نصف العام، وفوجئ تلاميذ الصف – وأنا معهم – بمعلمة الصف تكلفنا بواجب أضاع فرحتنا بالإجازة، وقد كلفتنا المعلمة بنقل دروس القراءة في دفتر الواجبات كاملا، ولست متذكرا بالضبط، هل كان التكليف بالكتابة شاملا حركات الضبط والتشكيل للحروف أم لا، وإن كنت أرجح أن كتابة الواجب كانت خالية من التشكيل، وإلا لما كنت أكملت عامي الدراسي، مثلما فعل نصف رفاق الصف، الذين لم يأت عليهم الصف الرابع من المدرسة إلا وهم مودعوها إلى غير رجعة.
مرت إجازة منتصف العام، وكل يوم أؤجل كتابة الواجب نصف السنوي إلى اليوم الذي يليه، إلى أن بقي منها حوالي خمسة أيام فقط، وما كان مني إلا أن منعت نفسي من اللعب، إلى أن انتهيت من أداء الواجب، بعد معاناة نفسية وبدنية من جراء ضغط قلمي ومعه السبابة والإبهام على عقلة إصبع الوسطى، وقتها شعرت أنني في طريقي لإثبات الذات، وقبول التحدي.
مرت الإجازة وبعدها أيام وشهور وأعوام، ولم يختف أثر البروز من عقلة إصبعي، وإن خف مع قلة استعمال القلم في الكتابة، والاتجاه قسرا إلى الكيبورد، الذي أكتب عليه سريعا جدا، ليس حبا في الكتابة على لوحة مفاتيح الكمبيوتر، ولكن إمعانا في إثبات الذات وقبول التحدي والرهان الذي كان أبطاله سبابة وإبهام ووسطى وقلم طفل السابعة، لأنني بطبيعة الحال وأنا أكتب على لوحة المفاتيح، أستحضر الشعور بالكتابة بالقلم وإن كان مؤلما بعض الشيء، لكنه أصبح محفزا على النجاح، مع استمرار الرهان الذي عاش معي لما يقارب الخمسين عاما.

2021/10/09 3:50م تعليق 0 399

ذات صلة

إيهاب مباشر يكتب «بُحَّ صَوتُنَا»

بُحَّ صَوتُنَا ونحن نحذركم ونحذر القائمين على صناعة الدراما في الثلاثين سنة الأخيرة، من أن ما يبث على شاشات السينما والتليفزيون يمثل جرائم مكتملة الأركان. بُحَّ صَوتُنَا ونحن نستحلفكم بأي شيء بقي لديكم تدركون أو يدرك من حولكم قيمته فيكم،...

إيهاب مباشر يكتب «بُحَّ صَوتُنَا»

  بُحَّ صَوتُنَا ونحن نحذركم ونحذر القائمين على صناعة الدراما في الثلاثين سنة الأخيرة، من أن ما يبث على شاشات السينما والتليفزيون يمثل جرائم مكتملة الأركان. بُحَّ صَوتُنَا ونحن نستحلفكم بأي شيء بقي لديكم تدركون أو يدرك من حولكم قيمته فيكم،...

إيهاب مباشر يكتب “درء الأتراح مقدم على جلب...

    تتزاحم لدي المقدمات، فتصيبني حيرة كبيرة وشتات تصعب معهما العودة إلى بداية ترضيني، ولا سبيل أمامي إلا الاستسلام لأقربها إلى الولوج إلى مبتغاي، حيث كلها يفضي إلى المبتغى. ولتسمحوا لي أن أقدم مواساتي لكل إنسان فقد أمه، طفلا كان أو...

إيهاب مباشر يكتب .. لا خوف عليهم ولا...

وإن لم يكن هدفي الأساسي من مقالي عن شيخي الأستاذ أحمد مرعي - رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - لم يكن الهدف منه أن يتذكره محبوه ومريدوه فقط، وإن كان بعضا من...

إيهاب مباشر يكتب «عندما يصبح المجتمع مرآة الفن...

      فتحنا أعيننا وتفتقت أذهاننا جميعا - من خلال اطلاعنا وبحثنا ومتابعاتنا - على تعريف مختصر للدراما وهي أنها مرآة لما يحدث في المجتمع، بمعنى "الفن مرآة المجتمع"، وزيادة في التوضيح، علمنا تعريفا عاما للدراما بأنها "نوع من الأعمال الأدبية...

إيهاب مباشر يكتب .. لا خوف عليهم ولا...

عندما فكرت أن أكتب مقالا عن شيخي الفاضل الجليل وأستاذي ومعلمي الراحل الشيخ "أحمد مرعي" رحمه الله تعالى رحمة واسعة - وهو ما أعتبره حقا من حقوقه فهو صاحب فضل علي عظيم - وجدت أن الراحل يطيب المقام به...

جميع الحقوق محفوظة © 2024 القاهرة اليوم نيوز