رئيس مجلس الادارة : إيهاب مباشر

رئيس التحرير : حنان الشايب

بهاء الصالحي يكتب «محمد خليفة .. نَقْضُ الخوف من أجل الحرية»

ما هو الخوف ؟ سؤال يطرحه علينا محمد خليفة ويجيب عليه شعرا من خلال ديوانه الثاني (حقايق من جيوب الخوف) هل الخوف معتقد يلازمنا من خلال فلسفة الزواجر والنواهي التي تلاحقنا عبر مسيرة صنع الافكار الرئيسية عن العالم وهي الطفولة بكل تداعياتها ، تلك اللفظة الساحرة سواء كانت عمرا ام عقلا ام عاطفة ، وهنا يمارس الشاعر منحى تطهيريا من خلال سرد ملامح الخوف التي صاحبت حياة جيله وبذلك يلقي عن روحه أعباءها الثقيلة ، وبذلك يتأرجح الديوان بين وظيفتي الأدب الخالدتين التطهير والتحفيز، من خلال كشف النقاب عن المسكوت عنه فى موج ثقافة الخوف التي تملأ حياتنا، وما علاقة ذلك بالشكل المطروح من خلاله القصيدة او القصة الشعرية، علاوة على دلالة المعطى البصري الذي يحسب للشاعر في عمله الثاني، ولعل إضافة اللوحة التعبيرية نوع من تطوير الخطوط التي تعبر بالمعنى إلى عقل المتلقي، ولعل العنوان أقرب للاتجاهين، وهنا سر نجاح الشاعر في اختيار عنوان كاشف للمعنى (حقائق من جيوب الخوف) فنحن لا نخبئ الا ما نكره إظهاره لأن الإنسان كائن متجمل قادر على إخفاء عيوبه، ولكن مأزق الشعراء انهم قادرون على رؤية ما وراء المشهد الواقعي، وهو نوع من التحليل النفسي للعالم وبذلك تتحقق رؤى بديلة للعالم عما هو سائد.
جميع ما قدم من هواجس أو فرضيات اثارها عنوان الديوان القابع علي باب العمل الشعري ولكن دعونا ندلف للعمل لنري مدي تحقق هذه الافتراضات من خلال بنية العمل الداخلية ومتشابكات النص علائقيا .
تطالعنا الافتتاحية التى تجسد عدة معان أولها تجسد الخوف في بنية كاملة لها ادبياتها وعلاقة الشاعر / الذات بهذا من خلال خلق رؤية وموضع جديد للذات خارج تلك الأبنية التي أخدتها الواقع لمفهوم الخوف :
ماكانش أول مرة اشوف / الخوف قصادي ببدلة شيك / واستسمحه اتصور معاه / مش فعل قد ما هو انتصار / علي قد خوفي من الحياة .
هنا جاء التطهر كمقدمة لتحفيز الذات لتجاوز تلك الأبنية المطبوعة على الخوف لخلق ذوات متراصة على مسافة قادرة على إيجاد بنية بديلة .
الشكل الهندسي للديوان
جاءت ابواب الديوان الثلاث بعناوين دالة مثل ( جيب العدم ص ١١ – جيب سحري ص ٣١ – جيب الوصل ص ٧١ ) هي دورة الحياة الثلاثية من عالم الذر حتي عالم الحيرة وهو عالم الحياة المعاصرة، ثم عالم الوصل وهو عالم الاجابة عن أسئلة الحيرة الوجودية.
تأتي كل العناوين متوافقة مع عنوان الفصل، ففي جيب العدم تأتي قصائد ( قفص مفتوح – حلف الكفن ما يموتش – أملا في موته تليق – موته هتكمل بالرقص ) دعونا نختبر ذلك التكامل من خلال قصيدة حلف الكفن ما يموتش ، العنوان نفسه فارق، فالكفن علامة من علامات الموت ومفارقة الحبيب، والمعني قسم بعدم الموت لأن الغشاء الذي يحتوي الجسد الميت قد أشفق عليه فقرر أن يعطيه قبلة الحياة، أيكون الكفن هنا نوعا من التجريد لفكرة المجتمع وأن الشعوب لا تموت، وهنا بداية البرزخ قبل البعث، وأي بعث يحتويه وفق رؤية المتلقي، وكأن هناك مواصفات قياسية لمواجهة الموت، فالصمت بيموت بصوت الطلق وكأننا بالشاعر يخلق غابة من المعادلات الموضوعية القابلة للتحقق وفق مشتركات العقل الجمعى، والطلب هنا قرين لمعاناة الولادة ولكن أي ولادة وهو ما يفهمه المتلقي وفق السياقات اللفظية والاجتماعية والسياق النفسي الذي أراده الشاعر هو قتل الخوف من خلال المواصفات القياسية للكلمة الحق :
الكلمة جمرة ونارها منك فيك / لازم تسيح بيها تلج الخلق .
فالكلمة ليست أداءا صوتيا، ولكنها إيمان وروح، وهنا صعود الروح بضمور الجسد حتى يكون النموذج، لأن أكبر مشاكله أن المنطق الخاص بالخوف قد تسلل إلي روحه فأصبح الشاعر / الحالة يجسد صورة جيله في عدة جمل تقريرية:
أكبر مشاكلي مواجهة التفكير .
الجديد هنا جدة الصورة مع بساطتها، وهنا الجودة بعيدا عن التبرع في اللغة وهنا سر روعة العامية المصرية، فهل صار الكفن بندا حواريا كقرين الطقس الموت، ولماذا حدثه الكفن هنا التخييل فقد صارت حواريات الكفن طقسا عاديا حتي يأتي في الحلم :
اتغطي طول نومه بكفن بكره .
فأعطاه الأمل ليأتي في نهاية القصيدة بحوار ثلاثي ما بين الذات / العدم / الوجود ، فالذات تغلي غليانا أجبر العدم على رفض احتوائه، حتي صار الوجود ممثلا في ردود الفعل للآخرين:
لما الرصيف قرر ينبت ناس / كان دمي ميه ورد محلي / اما الذين في قلوبهم داء / بصت لي عينهم بصة استحياء / ما أعرفش كانوا موتي أم أحياء .
كطائر العنقاء ذلك الطائر الذي يخرج من النار وكأن النار قد صهرت شواهد الموت لتخرج من جوفها إراداة الحياة، لتخلق مفهوما جديدا للحياة من رحم المعاناة، ويترادف المعنى عبر الصفحات، ففي صفحة ٦٥ضمن قصيدة كادر الغلابة :
جيت الحياة من غير هوية وذات / رغم أن فيه ألف دليل على نسبي.
جديد محمد خليفة في هذا الديوان قدرته على الاختزال الوحدة الموضوعية عبر الديوان، فالموضوع الرئيس هو الخوف من الواقع والرغبة في التحرر منه بطرحه عبر اللغة ليصنع معادلا خارجيا بحيث يصبح الفرد / الشاعر قادرا علي تحليله بدلا من كونه طلسما قابلا علي ظلال الروح لتعجز النفس وكأن الإنسان يتحرك بازدواجية مقيته، هنا تبدو اللغة المقاومة القادرة على تطهير الروح من أدرانها ولكن في إطار الغنائية القائمة على الثنائية وايقاع هادئ للغة دون الدخول في متاهات ودروب التفلسف، وكأن محمد خليفة ـ ذلك الريفي المشبع بمياه النيل العاشق لجريانه وانعكاس الضوء علي صفحته ليلا في عناق هو للعشق اقرب ـ قادر على الولوج لدواخله بحيث يستطيع ابراء روحه من كل معاني الخوف ليصبح قادرا على ممارسة الانسانية أولا والتحقق ثانيا بعيدا عن فكرة الصراع والقاء التهمة على الاخر .
وتلك هي روح الشعر الغنائي القائم علي الإيقاع والحركة والحوار العاشق مع الآخر بشكل حواري من اللغة البسيطة وكأنه يستدعي عبقرية العامية المصرية في سهولة تركيبتها اللفظية واللغوية، وهو بذلك ابن بار لمدرسة بدأها ابن دانيال ولم تنته طلبتها و إبداعها بعد، وذلك من خلال تحويله كلام الشارع لكلام قابل للتوافق مع موسيقي اللغة التي تصنع شرعية للافكار من خلال استخدام المشترك الجمعي، ويمارس نكاته اللغوية من خلال الرباعيات التى تسبق الأبواب والفصول كتمهيد ذهني المتلقي ليسهل عليه استيعاب الخطاب الشعري المقدم والذي يعد النحو أحد صوره وليس قانونا واحدا له .
التناص الموضوعية عند محمد خليفة
في قصيدة قلوب عمتها مش خضرة، يمارس الشاعر ذلك التناص مع حادثة هاجر عليها السلام في البحث عن حياة لابنها ولكن ما هو سر الاستدعاء وعناصر التناص، ومناط التناص هنا في البحث عن عناصر الكينونة من حيث الصياغة ليقرر: بوادي غير زرع نزلت، ولكن قلب الحالة ففي حالة هاجر ببشريتها سعت للبحث عن ماء السقاء لابنها في قفر لا حياة فيه،تلك جزئية الاستدعاء ، هنا الجديد فيما وجد من السعي لبحثه عن روحه فلم يجد سوي الخواء ليقرر أن هناك نبيا قد تأخرت رسائله عن الوصول، هنا تشخيص الحالة وفق ذلك الاستدعاء ليقرر محمد خليفة فكرة :
بصيت لنفسي في مراية بركة وقف / ما لقيتش غير ورقة كاتبها بدون شغف / بتقول وانا قلبي براه شيل الحمول / كان فيه هنا قبلك نبي/ إتأخرت أغلب رسايله في الوصول .
ما هو المغزي من هذا الاستدعاء ؟ هل ماء الحياة مطمورة في أفكار، المستبعد أو المصطفي دونما دليل مقنع، وهنا تأتي درجات القراءة لنصوص الشباب من خلال الظهير الاجتماعي للنص وهو أمر مختلف عن فكرة الواقعية من خلال مدي مساهمة الرؤية الاجتماعية للنص كبعد كاشف عبر التأصيل التاريخي للنصوص، هل هي مصدر أم أصل وهو الفارق بين الواحدية والتعددية التي تبرز بشكل واضح جولي من خلال أعمال شباب المبدعين .
ثنائيات محمد خليفة
ثنائيات هي الحياة فالموت مقابل الحياة، فمن أراد المقاومة يخلق من اليأس حياة، لأن من يأس وماتت روحه فيستلب من لن يستلب من شاشة الحياة كل دواعي الموت، تبدي ذلك في قصيدة مفارقات حيث يبدو مفهوم التكامل والتواصل مع دقة الفارق في اتجاه الحركة :
الأرض لو مش زينا ميه وطين/ فازاي هتطرح اللي جاي نبتة امل / الأرض مش ملكك لوحدك /للجميع / وانا لو مأخدتش حقي فيك / هضيع هضيع.
البعد الرئيسي للديوان هو الام، التحقق عبر الواقع وليس عبر الذات، فالسارد الرئيس عبر الديوان يدرك حدود قوته ومدى قدرته علي الفعل، ولكن المفارقة الرئيسية في شكل الوجود المحيط والقادر علي استيعاب طموحاته وآلامه، وذلك يتبدى من واثقه حيث يقف :
متخافش م النسر اللي حايم فوقك /دي الطلقة لو ماكانش عليك متنشنة/ ولو ماكانش مكتوب لك تعيش مش هتفاديك خليك شجاع .
وهو أمر متوافق معرفيا مع المنهج النفسي في دراسة الشعر وبالتالي يأتي الشاعر ممثلا لشريحة تعاني الخوف وذلك يتبدي من خلال استهلال الديوان ونهايته، ولكن توظيف المعني مع الشكل قد اختلف فلم يعد الخوف ذلك القاهر :
الخوف اللي ساب علامات ف جسمي /م النهارده دا مش ه ابص لندبه منك /  ولكل قولة اه اتكتب بأسمي _ .
هنا جاء الشاعر بديوانه بروح المقاومة عبر إزهاق روح الخوف المرشحة بداخله وكأنه يستعرض الواقع أن يستعيد نفسه من جديد.
بلكونة أوسع م السما
التباين ما بين الصورة ومدلولاتها والمكان وعلاقته بالزمان وأي زمان، هنا هو الزمان النسبي القابع داخل عقل وقلب الشاعر ،حيث يكون الحبيب حافز البناء المتواتر داخل عقل الشاعر وذاته، هنا الإيقاع الحركي للفظ العنوان ذلك أنه أوسع م السما وختام القصيدة وأنا هرفعك بايديا فتطولي السما / رغم أنها أصلا ف قلبك من زمان .
المكان على الرغم من تجريديته يصبح معروفا بالاستنتاج، حيث تجتمع دلالات العابرون والرؤية المتبادلة والقبوع خلف الستار الاحتمال المعبأ بالعبث ،هنا تصبح العلاقات التبادلية ما بين البشر والمكان ومنطقية العلاقات الإنسانية، هنا تكتسب الصدفة قدرتها البنائية علي صياغة الواقع .
الغنائية هنا مرتبطة برشاقة الوصف واللغة ذات الإيقاع الحركي ،وهنا يكتسب الوصف بعدين رئيسين علاقة المتحرك العابر وعلاقة الأمل القابع الشاهد علي خيبات السنين، وبالتالي تصبح الحركة مفردة :
ورا قلبك البلكونة شباك من صدف / مليون صدف رابطة الحياة بأمان حبال .
الغنائية هنا برقي الروح وتداخلها وتداعيها السلس من معني لمعني مع بقاء الكلمة بنفس حروفها ولكن تشكيل الكلمات أكسب الكلمة حركة إضافية بمجرد وقوع موسيقي اللغة في مجري السمع ليصبح انتزاع الاعجاب من عقل واذن المتلقي طبيعيا .
فالبلكونة الخشبية قد تحولت لصدف وهو مادة خام شديدة الجمال لتتناسب مع مفهوم الصدفة، ليتحقق قولنا المأثور رب صدفة خير من ألف ميعاد، وهنا نقول إن اللغة تولد أولا في العقول، فالعقل هنا خلق حالة من الدوران وكأن مفهوم الحركة هو الأصل في الصورة لأن الشاعر عرفا وعقلا هو من يري ما وراء الأشياء ( ارقص – يهز الجبال …… ) لأننا من نطق الأشياء معناها من خلال انعكاسها علي مرآة الروح : خليني اكون صدفة ف عنيكي يا جميلة.
جرد الصدفة ولم يصفها واستنهض ينبوع الجمال داخلها أن تعكس علي تلك الصدفة روحها الجميلة، بناء الجملة هنا غير الاتجاه بحيث جعل الجمال فعلا ذا مصدرين، تقديره لها، ورؤيتها للعالم بفعل جمال روحها .
هنا إذن الصورة الذهنية وقدرتها علي رسم حدود العالم ،حيث تفوق محمد خليله على نفسه من خلال قدرته علي الإيجاز وهو ما كان مطروحا عليه في عمله الأول ولكن الأعمال الأولى أشبه بالزفرة القاهرة، ولكنه أضاف إمكانات الخبرة والمراس في حركة شعرية مناهضة في ميت غمر بفعل نادي أدب قصر ثقافة نعمان عاشور بميت غمر، ذلك المكان القابع فوق صندوق المؤسسة .
هنيئا لمحمد خليفة آملين في إبداعات أكثر تثري عقل ووجدان مصر، وهو يملك الكثير .

2022/01/06 6:31م تعليق 0 445

ذات صلة

بهاء الصالحي يكتب «صناعة البطل 1 ـ 5»

      كيف يصنع البطل النمط   كيف تتعشق أبصارنا أنماط الأبطال وهو مأزق إنساني؛ لأن البطل المحبوب بسلوكه يخلق حدود المتاح في السلوك اليومي، وبالتالي تتفرع عدة اسئلة: من يصنع دراما صناعة البطل؟ لأن البطل المطلوب صورة معينة تلغي وتدين أنماطا أخري...

بهاء الصالحي يكتب «نيِّرة أيقونة السقوط ٣-٣»

      الصورة والإسقاط   يأتي مفهوم التحليل الثقافي كمدخل رئيسي لقراءة المشهد الذي انحصر أجرائيا في مفهوم الجريمة، خاصة مع حظر النشر كي تتم محاصرة التداعيات السياسية للحدث، خاصة وأن شبكات الإسلام السياسي قد صنعت منها ركيزة أساسية في خطابها الانتقادي اليومي،...

بهاء الصالحي يكتب «نيِّرة أيقونة السقوط ٢-٣»

    الإعلام الاستهلاكي   جاء الاعلام المصري من خلال الدراما التي قدمت السلوك غير المباح في صورة متناهية ومتدرجة منذ بداية السبعينيات، حيث تم تقديم عدة موجات أولاها سينما المقاولات، كاستمرار لموجة الهبوط المصاحبة لتلك الافلام التي صنعت في بيروت في فترة...

بهاء الصالحي يكتب «مئوية دستور ١٩٢٣»

    تعد الأبحاث الخاصة بتاريخ الدساتير امرا ملتبسا من خلال تعدد الزوايا، فالبعض يري الأمر من خلال مسألة الهوية وأن الدستور هذا مؤشر لنمط الحياة الاجتماعية التي سادت وقت صدوره، حيث يعكس البعدين العقلي والاجتماعي للجنة الخمسين، تلك اللجنة التي...

بهاء الصالحي يكتب «صناعة البطل ٣-٥»

    عصر الصورة تأتي السينما كمنتج تكنولوجي متعلق بإمكانيات الصورة المتعلقة بعلم الطيف، وهو أمر مرتبط بقدرة الإنسان علي تحدي الحتمية الجغرافية، حيث كان وعي الإنسان مرهونا بحدود رؤيته المباشرة، حيث الماء والجبال والأشجار. وكان الإنسان بذلك في طور السحر، تلك...

بهاء الصالحي يكتب «تغيرات الرأي العام ولعنة الهلباوي»

    يمثل المحامي فريد الديب حالة خاصة مع إعلانه أن الرأي العام لا يهمه، وأنه يتعامل مع قضية عبارة عن أوراق ومستندات دونما اعتبار لموضوع آخر، وهو في هذه الحالة يعيد إنتاج حالة ابراهيم الهلباوي الذي مثل الادعاء في قضية...

جميع الحقوق محفوظة © 2024 القاهرة اليوم نيوز