رئيس مجلس الادارة : إيهاب مباشر

رئيس التحرير : حنان الشايب

بهاء الصالحي يكتب « محمد رجب .. ماذا تبقي من الحلم»

 

 

الشعر الغنائي اختراع مصري بامتياز، حيث جاء عشق الحياة ممزوجا بماء النيل بطعمه الذي يلازم الذاكرة ويشكلها ويصنع تيارا من الحنين، تلك التحديات التي يجابهها أى قارئ للشعر الغنائي المصرى، ومع ثبات القضية الشعورية حيث الآخر في صورته المحبة وكأن المحور الذي يدور حوله هو محور المشاعر الإنسانية من الحب والكره والعتاب ولكن يبقى المؤشر الذى يتمحور حوله تقييم الشعر الغنائي :
١- الصورة الشعرية التي يقدمها الشاعر عبر هذا الديوان دون غيره .
٢- اللغة التي يقدمها الشاعر في سياقها الغنائي للحياة .
أما ما نحن بصدده وهو ديوان “بعد الحلم” للشاعر محمد رجب فقد حرص على فكرة الإيقاع المتوافر من خلال الحوار وكأن الاعتيادية هى الأساس الذي يتحدي به الشاعر متلقيه من خلال الدلالات الحركية والبناء الموضوعي للقصيدة ففي قصيدة كمان عاشق فقد بدأها بالفعل : اديتني وردة، فاختصر بذلك البناء اللغوي معاناة الشرح وتجاوز فكرة السرد وبذلك تكون القصيدة موجزة ومعبرة وهنا يأتي البديع من خلال التشبيه المؤدي للكناية  عن درجة السمو التي تتعالى على الرغبات المرتبطة بدرجة الفهم الغريزي للعالم :
اديتنى  ورداية/  قلت لها تشبه لك / رديت بنسمايه/  قالتلى دي قلبك
ويأتي الاستخدام المتعدد للفظة الواحدة مما يؤكد على مفهوم السياق :
حب الهوي حبك / على حبنا شاهد .
وظيفة الحب هنا كفعل فمن عظمة مشاعره فى الحب  أحب الهوى وصار فعله هو المصدر لفعل الحب نفسه ، ومن هنا تأتي الصورة مكتملة للفعل الإنساني، فبعد اهداء الوردة اشتعل الحب في قلبه فصار ساهدا، وكذلك جاء مؤنسنا الليل من خلال مخاطبته :
يا ليل ماتسهرشي /قال لي انا قاعد / يا ليلى روح أمشي .
ويستمر الأداء عبر الديوان من خلال عناوين القصائد مثل شموع الفرح / يا صباح الفل غني / آهات الشجن / فاح العبير/  الحلم وياك .
وهكذا على مستوي الطرح العام للذاتية المصرية التى تتميز بالغنائية التى تتماهى مع القدرة على تجاوز الأزمات واستخراج الجانب المضيء منها وذلك المستخرج من عنوان الديوان بعد الحلم فقد مرت التجربة كالحلم ومن هنا جاءت القدرة على تجاوز الجزء الموضوعي من الأزمة، وكذلك الوصول لمحتوى الإنسانى.
يتأتى الديوان فى اثنتين وأربعين قصيدة وهو يعكس ملمحا هاما في الغنائية المصرية بحيث تصبح الغنائية مهارة في التعامل مع مفردات الحياة اليومية، وكذلك صبغ المشاعر التلقائية خاصة في قصيدة أمي وهى مفردات الغنائية بعيدا عن المباشرة الأخلاقية وهنا القدرة على خلق طابع لغوي للغنائية المصرية .
ماهي مميزات الشعر الغنائي المصري ؟
تتركز أهم تلك المزايا في دورتها في فلك المحب حيث تبدو تلك مبنية على فرضية الأسرة المستقرة القائمة على جزئية الاستقرار المرتبط بالزراعة ويتبدى أكثر عربيا في تونس والجزائر ولذلك تبدو السمة الرئيسية هي الرومانسية والحبيب الذي تتمحور ذات المحب ورؤيته للعالم حول معدل رضاه وكأن ذلك الرضا هو المعادل النفسي الذي يصحح رؤية المحب لذاته وللعالم :
معاك الهم بيتباعد / والاقي الورد يتبسم /بهمس الشوق بيتنسم /ويحضني الربيع بعنيك .
وكذلك يصبح المحب بديلا عن العالم وبوابة الروح لذلك العالم :
وغصبن عني ألقاني /أسيب الدنيا وارجع إليك
ولعل اللغة العربية المبسطة التى يطلق عليها خطأ العامية وكأن هناك اعتماد طبقي لتصنيف اللغة حسب من ينطق بها وهنا الخطأ التاريخي الذي بنيت عليه أبجديات التاريخ اللغوي العربي ، فمن نتائج تخصيص طبقة للشعراء المادحين لبناء قبلي معين تم اعتبار لغات الشعوب نوعا من الانحراف اللغوي وكأنهم لم يستوعبوا وقتذاك البناء السياقي للغة والتى تتلاءم مع فكرة أسباب  النزول لآيات القرأن كجزء منطقى لفهمها، فعلى سبيل المثال جاء الشعر العربي قديما بوحدة البيت الشعري ثم جدد ابو نؤاس البيتين لمعنى واحد كبداية حقيقية لمفهوم التضمين ،ثم يأتى الشعر الغنائي المصري ليقدم تضمينا على مستوى عدة أبيات متتالية وكأنه يقدم حياته المتشابكة سرديا ولكن من خلال لغة شعرية قائمة على إيقاع موسيقي يتواءم مع الطبيعة النفسية للمتلقي، وصوتيات اللغة الخاصة به وعلى هذا تباين الشعر النبطي عن الشعر الغنائي المصري ، وذلك تأسيسا على أن الشعر جزء من ثقافة قولية تعتمد على المشافهة أكثر من التدوين ولعل جزئية المشافهة كانت أكثر حضورا مع بدايات الشعر الجاهلي الذي اكتسب سلطة على حساب شعر الشعوب بحكم حرص القبيلة التى حكمت على تخليد لغتها كنوع من سرقة المستقبل .
تناوب الضمائر وحدود الحركة بينهما
هل يؤدي ضيق المساحة التعبيرية للعالم الرومانسى الذي يعبر عنه الشاعر لتكرارية لغوية تصويرية تؤدي لخلق أنماط متشابهة وتفقد ذلك اللون جاذبيته لدى المتلقي، هنا تأتي اللغة والجزئيات المركبة للصورة هما الفيصل في تقييم شاعر عن شاعر ، ويبقى هنا بماذا يتميز ذلك الديوان عن غيره ؟
روح المداعبة والتمنع كخصيصة سلوكية في عرف التعامل اليومي بين المرأة والرجل وكأنه تطويع شعبي للغزل كغرض شعري قديم جاء به العرب تعبيرا عن وفرة الوقت الناجم عن الثراء الفاحش ناتج الغزوات وفترات تهميش الحياة الاجتماعية في الحجاز لصالح دمشق، ففى قصيدة ألاعيبك باينه والتي تعكس خفة الروح المصرية وبذلك تتحقق الوظيفة الأولي للشعر أنه تعبير عن الشارع المصري ففى ازدواج الشعور بالغزل كنوع من تقدير الآخر وهو مقاربة الحميمية المفتقدة بفعل العادات والتقاليد وكذلك الرغبة الرسمية في احترام الذات، وهنا يتحقق المعني مع الشكل وكأننا بصدد حالة تتكرر يوميا ولكن اللغة التى تعبر عنها لا تحتاج تقعرا :
لو شاري وجاي خلاص تسأل / بيتنا عنوانه الناحيه دي .
يصبح هنا تحدى اللغة ورشاقتها والقدرة الإيحائية للفظ في سياقه المعنوي النفسى الذي يساهم في خلق حالة الفرح وكأن المتعة هنا سلاح مقاومة قادر على تجاوز كل المصاعب لتحقق الوظيفة الترويحية برقي لغوي ودون إجهاد عقلي.
وظيفة الحلم
جاء نص من الحلم في الديوان كمعادل موضوعي لمفهوم فقد الحبيب ولكن ليحقق مفهوم التجاوز النفسي بقسوة فقد الأحباب.
وكأن التفاني في رسم تلك الصورة شبه المكتملة لحبيبة الحلم وكأنها تعكس تباينا شعوريا مع الواقع، وذلك لأن خريطة النفس لا يبدو منها للعيان إلا قليلا من التضاريس، ولعل ملامح التحقق المفقود قد تحقق في الفهم السياقي :
مسحت دموعي بسمتك / نورت ليلي بنجمتين/  وفتحت عيني لقيته حلم / ياريته ما خلص المنام
هنا يأتي الحلم وفكرة المنام كنوع من الخدعة الفنية في اللغة المتداولة كنوع من إبراز التمني على استحياء، ذلك الاستثناء كنوع من المقاومة المبطنة لقسوة العادات والتقاليد .
وتأتي تلك القصيدة (لقيته حلم ) كتوطئة لطبيعة اللغة والبعد الميثولوجى لتلك الحبيبة التى تجاوزت قيمة الحلم لتصبح نوعا من التحقق الإنساني التجاوز حدود الجسد ليتم تكريمها لتصبح قيمة في حد ذاتها :
فارد جناح قلبى الشقي /في سماك لما تشقشقي / ونهاري بيفتح عيونه ويبتسم / لما لقاك في عز صيفه بتبرقي / وضياك فردوسي وبشاير مشرقي/ ونسايم العصر اللي حالف يحضنك .
ماذا حقق الشاعر بهذه اللغة الميثولوجية على مستوى الطرح الشعري ؟
١- تطابق رحلة بطلة الحلم من الشروق للغروب هو نوع من المقاربة الذهنية لرحلة الشمس كي يساعد المتلقي علي قصدية تشبيهه لحبيبته مع فكرة الرحيل المادي المؤقت وهنا استدعاء لروح المصريين التي تري المحب روحا تجسدت في الأشياء المحيطة بها لخلق فكرة الاقتران بالوجود مما أدي لفكرة الخلود.
الدلالة الخالية للضمير انت
يسيطر على الديوان فكرة انت المانح لمركبات السعادة والاشراق والوضوح وذلك عبر قصائد الديوان بأكملها إلى قصيدة مات الربيع ياتى الانسحاب مع رحيل الحبيب :
سبتيني ليه ؟ /مش كان متفقين سوا / فتح رحيلك / الجروح فيضان /وآلام جروحي /ما تداويها سنين .
ولكن الشاعر يتبلور في قصيدة اطلع مين ؟  ليحقق بذلك حيرة الوجود الروحي من خلال احتلال الراحلين أحلامنا حتي مع وجود الآخرين ماديا في حياتنا ولكن الام المخاض الروحي الأول تبقي لها لذتها لأنها توائم ولادة الذات وكأن قضية التواصل هي الهدف الرئيسى لحياة الإنسان وذلك بلورة نفسية البعد البيولوجي للجسم البشري ، وذلك من خلال رقة الوصف الشعري لحياة وحالات القلب وارتباط تلك الحالات بقضية التحقق الإنساني:
وناس عايشين بقلوب ماتت / وناس ماتت لكن عايشين / وناس حضنانا بقلوبها/  وناس جوا القلب ساكنين .
ومع رحلة التأرجح مع أحوال القلب يبقي السؤال كما هو :
وانا تايه في وسط الناس / ومش عارف راح اطلع مين
هنا فكرة الحاضر الغائب التي قامت عليها كثيرا من الأساطير المصرية التي لازالت تتناص مع  العقل المصري القائم على الإيقاع والحركة والحوار وهى روح الشعر الغنائي المصري .
قدم لنا الشاعر لغة يعروها البساطة ولكنها محملة بالدلالات المرتبطة بعمق المشترك مع المتلقي وهنا يمتلك ذلك الشعر أدوات خلوده.
أيها السادة نحن بصدد ديوان شعر متميز لشاعر خبر الغنائية المصرية فأجاد السباحة في دروبها، وهنيئا للعامية المصرية زئير فارس خبر الأرض فأنبتها خير الشعر وأعذبه.

 

2022/01/03 10:36م تعليق 0 347

ذات صلة

بهاء الصالحي يكتب «صناعة البطل ٣-٥»

    عصر الصورة تأتي السينما كمنتج تكنولوجي متعلق بإمكانيات الصورة المتعلقة بعلم الطيف، وهو أمر مرتبط بقدرة الإنسان علي تحدي الحتمية الجغرافية، حيث كان وعي الإنسان مرهونا بحدود رؤيته المباشرة، حيث الماء والجبال والأشجار. وكان الإنسان بذلك في طور السحر، تلك...

بهاء الصالحي يكتب «صناعة البطل ٢-٥»

    مرحلة الاتصال المباشر   جاءت مرحلة الاتصال المباشر كوسيلة اقناعية نابعة من تركيبة المجتمع المصري، حيث شهدت تلك المرحلة سيطرة مفهوم العائلة بتراثها وتراتب أدوارها، حيث تكون القيم واحدة وتحكم كل المستويات بشكل طولي، حيث يصبح الموروث حاكما للجميع، وذلك بحكم...

بهاء الصالحي يكتب «تغيرات الرأي العام ولعنة الهلباوي»

    يمثل المحامي فريد الديب حالة خاصة مع إعلانه أن الرأي العام لا يهمه، وأنه يتعامل مع قضية عبارة عن أوراق ومستندات دونما اعتبار لموضوع آخر، وهو في هذه الحالة يعيد إنتاج حالة ابراهيم الهلباوي الذي مثل الادعاء في قضية...

بهاء الصالحي يكتب «صناعة البطل 1 ـ 5»

      كيف يصنع البطل النمط   كيف تتعشق أبصارنا أنماط الأبطال وهو مأزق إنساني؛ لأن البطل المحبوب بسلوكه يخلق حدود المتاح في السلوك اليومي، وبالتالي تتفرع عدة اسئلة: من يصنع دراما صناعة البطل؟ لأن البطل المطلوب صورة معينة تلغي وتدين أنماطا أخري...

بهاء الصالحي يكتب .. «حكمة الكرتونة»

    الكرتونة في اللغات الشرقية هي نوع من الأشكال الكرتونية علي صورة مستطيل أو مربع يغلق من اسفله ويفتح من أعلاه، وقد تم اصطناعه كبديل اقتصادي للصناديق الخشبية،خاصة مع ارتفاع تكلفة متر الخشب الي اثني عشر ألفا من الجنيهات في...

بهاء الصالحي يكتب «محمد خليفة .. نَقْضُ الخوف...

ما هو الخوف ؟ سؤال يطرحه علينا محمد خليفة ويجيب عليه شعرا من خلال ديوانه الثاني (حقايق من جيوب الخوف) هل الخوف معتقد يلازمنا من خلال فلسفة الزواجر والنواهي التي تلاحقنا عبر مسيرة صنع الافكار الرئيسية عن العالم وهي...

جميع الحقوق محفوظة © 2024 القاهرة اليوم نيوز