استمعت إلى حديث الرئيس عبد الفتاح السيسي أثناء افتتاحه «مراكز البيانات والحوسبة السحابية الحكومية» في طريق العين السخنة، حيث تابع سيادته شرحا تفصيليا لمخطط مركز البيانات والحوسبة السحابية الحكومية، وشاهد مجموعة من القاعات الخاصة داخل المركز لاختبار وتوثيق البيانات وأخرى خاصة للتدريب لتقديم كافة الخدمات الحكومية.
مؤكدا سيادته أن «الحكومة تبذل جهودا كبيرة، مضيفا بأننا إذا طورنا البرامج الحكومية بشكل مستمر سيكون الأداء أكثر تقدما وأكثر تطورا وأكثر جودة».
وقال إن «مصر بها 106 ملايين مواطن، ومن المفترض أن تكون أرقام العنصر البشري الذي يعمل في مجال الرقمنة أرقاما غير التي تم عرضها».
موجها حديثه للأسر المصرية قائلا: «كل أسرة مصرية لديها أبناء في فترات الدراسة بالمرحلتين الابتدائية والإعدادية، وإذا كنتم تريدون الاستثمار في أبنائكم ومساعدة بلدكم، يجب أن تتوجه بوصلتنا إلى هذه المجالات».
وقد وقف عند هذه النقطة تحديدا متسائلا عن توجه عدد كبير من أبنائنا الطلاب بعد إتمام دراستهم الثانوية إلى الكليات والمعاهد النظرية، حيث فاقت أعداد مخرجاتها ما يتطلبه سوق العمل.
وقد استوقف تصريح الرئيس السيسي المواقع الإخبارية ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي، وصنعت منه بوستا يلفت أنظار جموع الشعب المصري، حيث قال الرئيس: توجيه أبناء المصريين للدراسة في كليات الآداب والتجارة والحقوق غير مجدٍ الآن، وقد رسخت في الأذهان عبارة «هيطلعوا يشتغلوا إيه؟!».
إلى هنا فإنني أستعرض في أطروحة مقالي كلاما جميلا ومقبولا جدا، يبين حرص الرئيس على الاستفادة العظمى من مخرجات التعليم، بناء على احتياجات سوق العمل، حتى نجني أرباح هذا التوجيه، بما يفيدنا ويزيد مدخلات الناتج القومي من القوة البشرية الهائلة التي تتمتع بها مصر.
لكن السؤال هنا: هل هناك آليات للتنفيذ، افتقرت إليها رؤى المخططين والاستشاريين عندنا ـ وهم كثر ـ لبرامج تعليم توجه هؤلاء الشباب التوجيه السليم عبر خطط مدروسة وممنهجة؟.
لاحظ معي أنني أسهبت في تفاصيل مقدمتي التي اعتبرتها منطلقا لفكرتي التي يرتكز مقالي حولها، حتى يكون المتابع ملما بالأسباب التي دفعتني إلى الكتابة، فالكل أصبح شغله الشاغل الحديث عن العمل بمجال الرقمنة والبرمجة والذكاء الاصطناعي وتصديرها، فهل كل من تابع عبارة الرئيس السيسي «هيطلعوا يشتغلوا إيه؟!»، هل كل أولياء الأمور سيوجهون أبناءهم نحو هذا التخصص، أم أنه لابد وأن تكون رؤانا أوسع وأرحب، بحيث تكون المناسبة منطلقا للتخطيط السليم لمستقبل أبنائنا.
وحتى أؤكد على منهجي الذي أتبعه في كتاباتي، فإنني لست من أنصار إثارة القضايا لمجرد الإثارة، بعيدا عن محاولة جادة مني للبحث عن حلول لها، ولذا قبل أن أثير القضية، فغالبا ما يكون لدي تصور ودافع من وراء هذه المناقشة، وهو غالبا طرح حلول، ربما صادفتني من خلال مجال عملي في المجال الإعلامي أو مجال التدريب.
وأقولها صراحة: إننا هنا في مصر نفتقد إلى التخطيط الشامل لكل قضايانا، والسبب الكبير في ذلك، أن بعض أصحاب القرار يكونون غير مؤهلين التأهيل الكامل، أو أنهم من الأساس يفتقدون إلى الرؤى المحددة من وراء اختيارهم لتقلد مناصبهم التي سُكِّنوا فيها تسكينا.
ومن الإنصاف أنني أذكر أننا ـ ربما في السنوات القليلة الماضية ـ نحونا هذا الاتجاه، بإعداد كوادر تفيدنا في إدارة مفاصل الدولة الإدارة السليمة نحو المستقبل، والدليل على ذلك البرامج التي أهلت شبابنا في هذا الجانب، والسؤال هنا: هل هؤلاء الشباب الآن هم أصحاب قرار، أم أن القرارات لا زالت مع أناس تفتقر إلى الرؤى التي تؤهلنا إلى مستقبل نستحقه؟!.
وحتى لا أدور في حلقة مفرغة، فإن هناك أسبابا أدت إلى هذا التراكم في مخرجات لا طائل منها ولا فائدة يجنيها المجتمع من ورائها.
ووصولا إلى ما أريد الوصول إليه، أطرح سؤالي: هل تطبق في مدارسنا مناهج أقرب إلى مسمى التوجيه المهني، التي تدرس للطالب في المرحلة الثانوية، فيكون الطالب من خلالها ملما بما سيدرسه من مناهج، ويتلمس من خلالها طريقه الذي سيعرفه على سوق العمل بعد تخرجه، من قبل أن يخط قلمه رغبة من رغبات مكاتب تنسيق الجامعات؟!، وهل تشرك هذه المدارس آباء الطلبة فيتحملون شطرا من المسؤلية مع الطالب؟ وهل سيتخلى الآباء عن عقد الوظائف الكلاسيكية القديمة، دكتور .. مهندس .. ضابط؟! وهل اطلع مستشارو التربية والتعليم ـ وهم كثر ـ على تجارب بعض الدول، لا أقول الغربية، ولكن دعونا نقترب فنقول تجارب بعض الدول العربية في هذا المجال، والتعرف على مناهج التوجيه المهني في المرحلة الثانوية بهذه الدول؟!
نقطة في غاية الأهمية، وهو خطأ فادح وقع فيه مستشارو وشيوخ التعليم في مصر، وهي تقسيم التعليم ما بين عام وفني بعد المرحلة الإعدادية بناء على المجموع، حيث يتوجه الطالب الحاصل على نسبة عالية إلى التعليم العام، بينما يعاقب الطالب الذي لم يحصل على نسبة مئوية محددة إلى التعليم الفني ـ الذي يراه البعض بعقليته المنغلقة غير الواعية ـ سيئ السمعة، مع العلم أن التعليم الفني بمناهجه النظرية والعملية يتطلب عقليات فائقة القدرة على الاستيعاب، بعكس طالب التعليم العام الذي يعتمد على الحفظ والتلقين، وأخير ـ للأسف الشديد جدا ـ يعتمد على مهارة الغش، واسألوا عن نتائج إعدادي الطب والهندسة؛ لتخبركم عن نتائج من غشوا من الطلبة، الذين سيتحملون عنا إدارة مستقبلنا.
وحتى أؤكد على أنني لست من دعاة إثارة القضايا دون عرض بعض الحلول التي رأيتها مطبقة في بعض الدول التي زرتها، فإن نتيجة تنسيق الشهادة الإعدادية في هذه الدول، توجه الطالب إلى الدراسة في المرحلة الثانوية في مدرسة واحدة، والطالب بالاشتراك مع ولي أمره وإدارة التوجيه المهني في المدرسة، كلهم مسؤولون عن توجبيه الطالب إلى التعليم العام أو الفني، بناء على التخصص الذي يناسبهم، ففي المدرسة الثانوية الواحدة يوجد القسم العام والقسم التجاري والقسم الصناعي.
وبناء على هذا التقسيم الصحيح فإن جميع الطلبة يدرسون تحت مظلة واحدة، ومن الممكن أن ترى طالبا متفوقا، بمجموع درجات كبير جدا، يختار التعليم الفني.
وقد أثبتت التجارب أن مخرجات المدارس الثانوية الفنية في مصر يحصلون على مقاعد في الجامعات وتكون فرصهم أفضل من طالب التعليم العام.
وإلى أن نفيق ويفيق مستشارونا من العقليات المنغلقة، فيجب علينا ـ كأولياء أمور ـ مشاركين في المسؤولية، أو تقع علينا المسؤولية الكبيرة في اختيار التخصص الذي سيسلم أبناءنا بأمان إلى سوق عمل يفيدهم ويخفف عنا تبعات مشاكلهم المستقبلية، يجب علينا أن نوجه أبناءنا التوجيه السليم، ونتخلص من عقد الماضي.
عرفتم الآن «هيطلعوا يشتغلوا إيه؟!».
دمتم ودامت محبتكم ودام ودكم.